حكاية تمضي

حكاية تمضي.. ( إلى التائهة )

الكاتب المغربي عماد الورداني (Imadelo)

يوم الانتحار
هناك نام اللقلاق إلي الأبد، نام في حقل مهجور قاحل، بعدما أصبح حكاية قوم أفزعهم ذاك السقوط المباغت من السماء إلي الأرض. في يوم بارد من أيام يناير حينما كان يونس يستعد للخروج وقف يتأمل قليلا، من شرفة بيته يطل، وهو يتناول قهوة، يبحث عن تلك الهوة السحيقة التي تبعده عن القرار الصائب، هل يدع قصة اللقلاق تمر دون سؤال، أم ينحت منها حكايته لتستمر إلي جانبه، تجاريه وتصبح موضوعه؟ بالفعل. اهتدي إلي ضرورة إشاعة النبأ وتدويله بين الصغير والكبير. والخبر مثل الهشيم قبل أن يستفيق شيخ القرية كان قد تسرب إلي آخر من له أدني اهتمام، الصحافة السمعية البصرية، أهل البحث ودروبه، الجمعيات الحقوقية، الحكواتي، المرابطين في مقدمة الدوار، وآخر من تلقف الخبر هو شيخ القرية نفسه. استمر الخبر باحثا عن متلقيه، يزرع الدهشة في بعضهم، والسؤال في بعض آخر. ويونس وحده الذي رأي المشهد.

صبيحة يوم الانتحار:

شيخ القرية تصرف بحنكة وذكاء، حيث أخفي اللقلاق المنتحر في كيس بلاستيكي، اتصل بمسؤوله المباشر، المسؤول المباشر اتصل بالمصلحة المعنية، المصلحة اتصلت بالوزارة، الوزارة اتصلت بالخارج. الهاتف يرن دون جواب..انتظار، أعد الاتصال، خط متقطع، ديبلوماسية... والقيامة قائمة، الخطوط تكاد تعوي من الضغط، فالقضية قضية أمن قبل كل شيء، والاتصالات عجزت عن وقف زحف الحكاية.

ثلاثة أيام بعد الانتحار:

يتساءل يونس عن مصير الطائر الوديع، وهو السؤال الذي حملته القبيلة بأكملها وتوجهت به إلي السلطة لاستعادة اللقلاق، وكشف سبب انتحاره، وإقامة تأبين يناسب الضجة التي أحدثها. مقابل ذلك تسربت الإشاعات إلي عموم المواطنين، لقد مات اللقلاق بسبب الأنفلونزا، آخرون قالوا أن يدا خفية اقتطفته من السماء لتلامس بركته، وقال آخرون إنها رصاصة طائشة. ظلت الألسن تلوك الحكاية، تعجنها وتصدرها لتنتفخ وتكمل استدارتها، فتحتاج إلي متنفس دقيق حتي تنتهي، في تلك الأيام تجددت أواصر الأسر، امتلأت الحمامات والمقاهي والباحات، تأخذ في سيرة اللقلاق وتبحث عن حل دفين، أي حل. كان الشفق قد مال إلي نهايته.. والحكاية تأكل مساحات كبيرة، يتسع مداها، ذاك المدي الذي رافق يونس وهو يتأمل من شرفة بيته.

يومان علي الانتحار:

قرر مركز البحث بالتنسيق مع الاتصالات المحلية والدولية حفظ القضية، وترك اللقلاق في مكانه الذي استقر فيه، حتي يتضح أمره. وفي خلسة من أمره سحبه شيخ القرية من الكيس البلاستيكي وأسكنه في مكانه الأصلي، حيث شرفة يونس، وجاءت الأوامر و حصن المكان، وفرض حظر التجول علي القبيلة بأكملها وبالخصوص علي يونس، في انتظار مجيء لجنة خماسية من العاصمة، ظلت حالة من الرعب تنتاب سكان القبيلة. في هذا الزمن، كان المواطنون يختلسون النظر عن بعد، وظهر يونس ومعه المنظار يسترق السمع والنظر من ثقوب في الشرفة، ويبيع حكايته في المقاهي، يونس ذاك الشخص الذي أحبته القرية بأكملها، صغيرها وكبيرها، سوي شيخها الذي عاتبه كلما تلاقت عيونهما.

اليوم الأخير من الانتحار:

تظهر اللجنة وهي تنهش في لحم اللقلاق، وسكان القرية ينظرون عن بعد، عيونهم جاحظة، إنه اللقلاق، لقلاق يونس، يأكلون بركتنا، بل يأكلون أمراضنا، هل سنسكت؟. المكان مدجج بالعساكر واللجنة أنهت واجبها، بينما حمل المقدم أشلاء اللقلاق ووضعها في مكان قصي بأحد الحقول.. لم تتعد ساعات حتي أذيع خبر انقلاب سيارة اللجنة. ساعتها كانت المزارات تشد نحو المكان القصي في الحقل، والشيخ يستقبل الوفود التي تأتي محملة بالقرابين من حليب وشموع ودجاج. يونس ما زال يتأمل مليا حكايته، وانضاف إلي اسمه صفة جديدة هي يونس اللقلاق.