خيبة أمل

خيبة أمل
عماد الورداني


أمر كل صباح من منزلها حاملا آمالي المزهرة. في الليل أقنع نفسي بمفاتحتها، وحينما أقترب من الشرفة أحس أن شجاعتي تنهار ورأسي يميل إلي الأرض، أعرف أنها أكثر شجاعة مني، فهي تراقب علي مهل خطواتي المتسرعة هذا ما أقنعت نفسي به. لا نستطيع البوح أو ممارسة النفاق اليومي، صباح الخير أو مساء الخير.. أمي وإخوتي الصغار هم من يتمتعون بهذا الامتياز الكبير.. أعود قافلا من يوم شاق في النظر..لا أعرف لماذا أصل إلي هذا المكان بالضبط ولا أتحكم في نظراتي ورأسي..جلست أمام التلفاز وأنا أفكر في هذه الخيبة الطويلة التي تتعسني، أحاول ملأ هذه الدوامة، أتجول فيها أركض طولا وعرضا وراء سراب كلما تماهي فيٌَ أمسكَ بتلابيبي وزاد من تعاستي..أمي تبكي لمآل فاتن حمامة، تسألني إن كانت ستخرج من مطبتها. لا أظن أنني سأرفع رأسي عاليا وأتحدي مقولة ابن الحاجة فاطمة ابن ناس . تمر دروب الأيام ولا جديد يأتي سوي طيفها الذي استهلكته تماما..وفرت بعض الدراهم لأروح عن نفسي فقادتني فراستي إلي كفتيريا قرب معهد البنات التي تدرس فيه جارتنا، خصوصا أن مادة المسرح التي أدرسها في الجامعة أقرفني أستاذها الأصلع البدين، فلم أجد أي علاقة بين المسرح وبين هذا الشخص، فكانت فرصة لأرفع رأسي ولو مرة واحدة. أرمقها عن بعد وهي تخرج من مدرستها تتبختر في مشيتها وتحمل حقيبة تشبهني في كل شيء، رأيتها، لمحتني عن بعد، فتشتتت تفاصيلي، حملت خيبتي من جديد وحوقلت اتجاه المكتبة، أسرع في خطواتي حتي لا يلمحني والدها ويخال أن ابن الحاجة فاطمة يترصد خطوات ابنته الوحيدة، وأي ترصد.. إنه يفر من دروسه، ويضيع وقته في الانتظار
وأنا أحبو نحو المكتبة في خطوات متثائبة، والقلق يشتت مشيتي، أسمع صوت السيارة يتصاعد..خيبة جديدة تضاف إلي خيباتك الكثيرة ، لقد اكتشفت وضعت، مثلي مثل أولئك المتاخمين لمقدمة الدرب يعاكسون بنات الأحياء المجاورة، أحسدهم علي تربصهم الدائم قلت لنفسي. أقف مندهشا لما يحدث بضع ثوان ستحولك إلي آخر غير أنت، أو آخر الذي يسكنك ولا تجد سبيلا إليه. يخرج والدها وعلامات الوقار تلبسه من بداية قبعته مرورا بلحيته الممسدة إلي تقليعة تسبيحه
ـ أهلا بني كيف هي دراستك؟
هل هو لغم جديد، سألني عن الدراسة، ولا محالة سيوبخني لأني أتواجد بهذا المكان البعيد عن الجامعة والمكتبة
ـ مساء الخير سيدي. ورأسي ينخفض، يكاد يلتقي بجانب الرصيف
ـ هل أنت ذاهب إلي منزلك؟
سؤال مفخخ، ينتظرني أن أعترف بحكايتي ونيتي السيئة
ـ لقد عُدت صديقي المريض، وأنا الآن أقصد بيتنا
صديقك المريض؟ هل تنفعك هذه الكذبة الباردة، ألا تخجل من نفسك؟
ـ إذن اركب معنا، فأنت ابن ناس
طيلة الطريق ورأسي مطأطأ، لكن داخلي يتحسس تفاصيل صاحبتنا ويلثم آخر نقطة قد تخطر علي بال
والدها يسرف في الكلام بمهارة، وأنا أكتفي بالإنصات. كم تمنيت لو أن الطريق من المدرسة إلي حينا تطول، أو أن تتعطل السيارة. كلما حاولت أن أرفع رأسي لأري ما تعكسه زجاجة السيارة، تلفعني أشعة الشمس فأنكمش مجددا
انتبهت إلي وقوف السيارة، تأملت منزلهم للمرة الأولي، بدت الشرفة كئيبة بدونها، لا تحمل أي طعم أو رائحة سوي اسمنت مرصوف ومنضد، نهضت من مقعدي وأحاسيسي بين الأمل والخيبة
ـ رافقتك السلامة بني
ـ أشكرك علي جميلك
ـ لا تنس أن تبلغ سلامي لوالدك، وأخبره أننا عما قريب سندعوكم إلي شرب القهوة عندنا
ـ بالإذن سيدي
ودعته ونظراتي تنغرس فيَّ كسؤال محرم، وملامحي البيضاء كشفت عن خجل متزايد. أعرف أن شرب القهوة في أحد البيوت العامرة ما هو إلا علامة لخبر سار سيزف عما قريب، تلقفتني أمي بزغرودة في الباب، وأخبرتني أن جارتنا سوف تزف عما قريب. لهذا فإن أم العروس استدعتنا لشرب القهوة عندها كي تفرحنا بالخبر في جلسة
أكملت أحاسيسي دورتها إلي الصفر، وأصبحت أواظب درس المسرح، حتي أنني أصبحت ممثلا بارعا، أساهم في كتابة المرتجلات وأمثلها وحدي علي مسرح الطريق

كاتب من المغرب